عين اليمن على جنوب اليمن

في عدن لا يعود الجنود إلى بيوتهم

بقلم/احمد عبداللاه

أسوأ الهزائم وأكثرها مرارة هي أن تحقق بيديك ما يتمناه عدوك… وهذا ما يُخشى على الجنوب منه، إذ لا شيء على السطح حتى الآن سوى المكونات والمقاومات “بولاءات مفككة” وفضاءات غامضة… وهذا في ظروف محددة أمر خطر للغاية. الجنوب يعيش على هامش تحالفات معقدة في ظل سلطة شرعية ليس لها إحداثيات ثابتة، حتى وإن كانت أولوياته الضرورية أن يستند إلى جدارها ويستظل بها في هذه المرحلة. لكن علينا قراءة تجارب الآخرين الطازجة، فالقوى الثائرة على الأنظمة، بتحالفاتها وأدواتها المختلفة وتبايناتها الداخلية، شاركت في صنع كوارث ليبيا وسوريا وقادت إلى مآلات مدمرة، وهذا ما يلقي بظلال الخوف على الجنوب، الذي ما تزال بيبانه فاغرة على مجاهيل عدة.
وعليك أيها القارئ الحصيف أن تتخيل “مجرد خيال” أسوأ كابوسين عملاقين متلازمين في آن واحد: أن ترى يوما ما داعش، التي تنمو بهدوء، وقد غزت عدن الجميلة وحولتها إلى جحيم دنيوي حقيقي، أو ترى قاسم سليماني يتجول في شوارع كريتر وهي مختنقة بالدخاخين والغبار، وتلامس أقدامه أمواج الخلجان العدنية!! ومع أن عدن لا تعزف على الكمنجات الحلبية لأن لديها مواويل حزينة بمقامات مختلفة، إلا أن تلك سيناريوهات مرعبة كمتلازمة لحروب العرب الحالية… فماذا يفعل الجنوب لكي يطرد الكوابيس تلك؟ وهل الشرعية تمتلك النية والقدرة لمساعدته على توحيد طاقاته المدنية والعسكرية، حتى في إطار معركتها، أم أنها مقيدة أكثر في “باستيل معاشيق” و بلا أفق حقيقي؟ ولماذا تتهاون دول التحالف في بناء مؤسسات دفاعية وأمنية جنوبية صلبة وقوية لدرء المصائب والتداعيات الغير محسوبة؟ سؤال بألف سؤال.
لهذا لا يجد المرء أي تفسير سوى أن دول التحالف ربما لديها استراتيجيات محددة للدفاع عن أراضيها من الهجمات المباشرة، لكن ليس لديها أي علم حول مستقبل اليمن عامة والجنوب خاصة، أوعلى الأقل ذلك ما هو ظاهر بعد قرابة عامين من الأزمة والحرب. وإذا كان هناك أمر خفي مختلف فإنه بحاجة إلى ضارب الودع ليستكشفه أكثر من القارئ السياسي للأحداث.
دول التحالف تغرد بنشيد المرجعيات وهي تعلم أن لا شيء سيتحقق كما ينبغي، فصنعاء تبني مؤسسات دولتها الجديدة وذاهبة نحو تأصيل الأمر الواقع، ويوما ما ليس ببعيد ربما سيدعم العالم هذا الأمر الواقع بصورة علنية، وحينها على السادة الظرفاء الحفاظ على الفك السفلي لأفواههم لكي لا يسقطه هول الدهشة.
لكن هناك بالمقابل أمر محير أيضاً، فالجنوبي النخبوي مستغرق في مطالعة خياراته والمفاضلة بينها على النحو التالي: جنوب عربي أو جنوب يمني ، فدرالية إقليمين أو يمن اتحادي بالشمعدان السداسي؟ والأخير يحتاج إلى لوحة دافنشية وروائيين من نمط دان براون لفك شفراتها… وكأن العالم قدم لنا “منيو” لمائدة طعام سياسية وما علينا إلا أن نختار الوجبة الشهية أو تشكيلة لطيفة منها. التفكير بالتمني حالة سيكلوجية عربية عامة وجنوبية أصيلة، تكيّف التوقعات والتحليل وفقا للرغبة، لكن الأمر يصل دوماً إلى مواجهة صعبة مع الحقائق. ولهذا على أخوة الفكر والسياسة أن يضعوا إجابات حقيقية لأسئلة تتراكم يوم بعد يوم… فإذا كان الشعب يريد استعادة دولته فعليه أولاً أن يثبت بأنه يستحقها، وأولى الخطوات تتعلق بنكران الخاص للصالح العام ونكران الهويات الفردانية و”المناطقية” لصالح وطن جامع، ونكران المكون لصالح ائتلاف وطني، وتتوقف الفتافيت الإعلامية والابتزاز بإسم الشفافية وتُخلي مكانها لنسق إعلامي متكامل حامل مشروع تغيير يرجّ حالة الركود المؤلمة وفق أولويات موضوعية، ويخدم الإستقرار والسلم الإجتماعي ويتجاوز الخطاب الشعبوي الساذج الممل.
من جهتهم يطلب الأخوة النيّرون أن تنفتح عدن والجنوب على الآخرين ضمن مشروع مواجهة الانقلاب! وكأن ما قدمته عدن وينفذه الجنوب عملياً حتى الآن هي سهرة غزل راقصة مع مشروع عزلوي بين أربعة جدران، ومع هذا لم نسمع لمرة واحدة بأن طُلب من الآخرين أفراداً وأحزاباً أن يعتقوا الجنوب وعدن ولو لحظة واحدة من حُمّيّاتهم الإعلامية السامة ودسائسهم… فهل من إنصاف أيها الحكماء الأجلاء؟ الجنوب ضمن الشرعية والتحالف بل هو أشد المقاتلين وأكثرهم تضحية فهو يواجه الإنقلاب والإرهاب “باكيج” متكامل عكس الآخرين، لكن في المقابل، ومن نقطة ما، سيواصل النضال لتقرير مصيرة لأن قضية الجنوب لم تصنعها الحرب الأخيرة بل هي قضية أوصلتها الحرب الأخيرة إلى مرحلة لا رجعة منها.
الآن دعونا نذهب إلى “متن الحكاية”… في عدن لا يعود الجنود إلى بيوتهم… هناك إرهاب متوحش يتمدد بهدوء تام وتُقدّم له مرة تلو الأخرى أضحية طرية من لحمهم، ولا يهم من أين هم، فكل دمائهم كُحلية غامقة وموجعة للغاية… وهناك سدنة الجحيم من إعلام المفخخات التحريضي، يوظفون نتائج الدم في محاولة ضرب المناطق الجنوبية وإشعال الفتنة بينها. تلك جهات تتلذذ بالدماء والأشلاء وتضيف على كل قطرة دم قطرة حبر لاستكمال عملية الاستثمار السياسي للموت، وبالمكشوف المبين دون تكتكة أو تقية. يريدون السلطة ولا شيء غير السلطة كي يقيموا إماراتهم وخلافتهم في مشروع البنيان المرصوص من كوالالمبور حتى نواكشوت، يقابل هذا المشروع مدد الفقيه الولي نائب الإمام المسردب في بغداد والذي سيبسط نفوذه على بلاد المسلمين ويمهد لقدوم المهدي. مشروعان متصادمان وكل منهما كارثة ماحقة بالأمة… وليتخيل المتخيلون من يحمل مشروع وطني كيف سيزاحم في هذه الأجندات المزلزلة وأين يضع تحالفاته وكيف يصدق متعهدي الترويج للمقاربات المهببة من المنظرين؟؟؟
الجنوب في هذه المشهدية الخطيرة يحتاج إلى الكثير، ومعرفة التحديات والتذكير بها مهم للغاية لكي لا “تتسرمد” ظاهرة الطفولة الثورية. العالم لديه استعداد للتعامل معه بجدية في إطار أولويات واضحة إن كان يمتلك أدواته ولديه من يمثله، ويستطيع أن يوصل رسالة للعالم بأن الجنوب أمام خيارات ضيقة فإما أن يتم إعداد مؤسساته بشكل تام ومنظم لمواجهة الإرهاب وإما أن يصبح أرض مفتوحة وخطرة، ولا يُنتظر من أحزاب صنعاء وقواها وقبائلها مجتمعين أن يجعلوا من الجنوب غير ساحة صراع دائم، واستجلاب الإرهاب وتوظيفه ليبقى الجنوب رهينة ضعيفة أو يتدمر ويموت.
المسئولية الكبرى الآن تقع على من يتمتعون بثقل شعبي لأن جماهير البسطاء تثق بهم وهم لما يزالون خارج الفعل الحقيقي، وثقة الناس الممنوحة لهم مسئولية حرجة للغاية، فعليهم أن يتركوا بلاتو التمثيل لأنهم ليسوا نجوم دراما بانتظار الجولدن جلوب، أو لاعبي أدوار بين التوت والنبّوت، بل نخبة يفترض أن لهم تأثير كبير وعليهم أن يظهروا ويفعلوا شيء… الناس تقرحت مسامعها من أصوات الطواحين المغردة.. إلى هنا يكفي.
You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com